الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
* فالجنة أمنية كل مؤمن، وحُلم كل مسلم، ومطلب كل حي، وفوز كل عامل، من أجلها عمل العاملون، وسهر الساهرون وصام الصائمون، وتنافس المتنافسون.
* وقد رغبنا الله عز وجل ورسوله ( فيها، وأبانا لنا بعضا من أوصافها لنجد في طلبها، ونشمر ما استطعنا للفوز بها، ونعد المهر للظفر بنعيمها.
* فهل تسير معي – أخي الحبيب – نشم هواءها، ونحاول وصفها، ونتلذذ بذكرها، ونسير بين أشجارها وأنهارها، وندقق في طريقها... علنا نحاول جادين بعد ذلك الوصول إليها، والفوز بها.
* نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، وصلى الله على نبينا محمد.
الناشر
ما هي الجنة؟
* الجنة في اللغة: البستان أو الحديقة ذات الشجر الملتف كالكثيف كما قال تعالى: (ونزلْنا من السماء ماء مُباركا فأنْبتْنا به جناتٍ وحب الْحصيد( [ق: 90]، وجمعها جنان، وهي لفظ مشتق من الفعل «جن» بمعنى استتر، والعرب تقول: جنت الأرض بالنبات إذا غُطيت به.
* أما في الشرع: فتطلق الجنة على المكان الذي سيدخله المؤمنون ليكون جزاء لهم يوم القيامة، لما فيه من أشجار كثيفة ملتفة مع تناسق وجمال باهر لا نظير له، يستر من فيه عن الأعين، ويمنعه عن الآفات، ويحفظه من الأخطار.
* * *
أسماء الجنة
* للجنة أسماء عديدة باعتبار صفاتها التي وصفها الله بها، وقد ذكر لها ابن القيم رحمه الله اثنى عشر اسما هي باختصار:
الأول: الجنة وهو اسمها العام المتناول لتلك الدار وما اشتملت عليه من أنواع النعيم واللذة والبهجة والسرور وقرة الأعين.
الثاني: دار السلام، وقد سماها الله بهذا الاسم في قوله تعالى: (لهُمْ دارُ السلام عنْد ربهمْ( [الأنعام: 127]، وقوله: (واللهُ يدْعُو إلى دار السلام( [يونس: 25]، وهي أحق بهذا الاسم؛ لأنها دار السلام من كل بلية وآفة ومكروه. وهي دار الله، واسمه سبحانه وتعالى السلام.
الثالث: دار الخلد وسميت بذلك لأن أهلها لا يرحلون عنها أبدا، كما قال تعالى: (وما هُمْ منْها بمُخْرجين( [الحجر: 48].
الرابع: دار المقامة أي الإقامة الأبدية، فهم لا يموتون ولا يتحولون منها أبدا، قال تعالى: (وقالُوا الْحمْدُ لله الذي أذْهب عنا الْحزن إن ربنا لغفُور شكُور * الذي أحلنا دار الْمُقامة منْ فضْله لا يمسُنا فيها نصب( [فاطر: 34، 35].
الخامس: جنة المأوى، قال تعالى: (عنْدها جنةُ الْمأْوى( [النجم: 15]، وقال: (وأما منْ خاف مقام ربه ونهى النفْس عن الْهوى * فإن الْجنة هي الْمأْوى( [النازعات: 40، 41].
السادس: جنات عدن، قال تعالى: (جنات عدْنٍ التي وعد الرحْمنُ عبادهُ بالْغيْب( [مريم: 61]، أي جنات إقامة.
السابع: دار الحيوان، قال تعالى: (وإن الدار الْآخرة لهي الْحيوانُ( [العنكبوت: 64] أي دار الحياة الدائمة التي لا تفنى ولا تنقطع ولا تبيد.
الثامن: الفردوس، قال تعالى: (أُولئك هُمُ الْوارثُون * الذين يرثُون الْفرْدوْس هُمْ فيها خالدُون( [المؤمنون: 10، 11]، وقال تعالى: (إن الذين آمنُوا وعملُوا الصالحات كانتْ لهُمْ جناتُ الْفرْدوْس نُزُلا( [الكهف: 107]، والفردوس يطلق على جميع الجنة، ويقال على أفضلها وأعلاها.
التاسع: جنات النعيم، قال تعالى: (إن الذين آمنُوا وعملُوا الصالحات لهُمْ جناتُ النعيم( [لقمان: 8] وهذا أيضا اسم جامع لجميع الجنات.
العاشر: المقام الأمين، قال تعالى: (إن الْمُتقين في مقامٍ أمينٍ * في جناتٍ وعُيُونٍ( [الدخان: 51، 52]، والمقام موضع الإقامة، والأمين الآمن من كل سوء وآفة ومكروه، وهو الذي قد جمع صفات الأمن كلها.
الحادي عشر والثاني عشر: مقعد الصدق وقدم الصدق، قال تعالى: (إن الْمُتقين في جناتٍ ونهرٍ * في مقْعد صدْقٍ عنْد مليكٍ مُقْتدرٍ( [القمر: 54، 55] فسمى الجنة مقعد صدق لحصول كل ما يراد من المقعد الحسن فيها.
* * *
سعة الجنة
* ورد في القرآن الكريم آيات تشير إلى سعة الجنة، منها قوله تعالى: (وسارعُوا إلى مغْفرةٍ منْ ربكُمْ وجنةٍ عرْضُها السمواتُ والْأرْضُ أُعدتْ للْمُتقين( [آل عمران: 133]، وقوله: (سابقُوا إلى مغْفرةٍ منْ ربكُمْ وجنةٍ عرْضُها كعرْض السماء والْأرْض أُعدتْ للذين آمنُوا بالله ورُسُله( [الحديد: 21].
وقال (: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، فاقرءوا إن شئتم (وظلٍ ممْدُودٍ(» [متفق عليه].
درجات الجنة
* يتفاضل الناس في الجنة كما يتفاضلون في الدنيا، كل بحسب إيمانه وعمله في الدنيا، بل إن تفاضلهم في الجنة أكبر وأعظم من تفاضلهم في الدنيا؛ فالجنة ليست درجة واحدة، بل جنان متعددة تتفاوت في الحسن والنعيم والجزاء، قال تعالى: (انْظُرْ كيْف فضلْنا بعْضهُمْ على بعْضٍ وللْآخرةُ أكْبرُ درجاتٍ وأكْبرُ تفْضيلا( [الإسراء: 21]. وقال: (يرْفع اللهُ الذين آمنُوا منْكُمْ والذين أُوتُوا الْعلْم درجاتٍ واللهُ بما تعْملُون خبير( [المجادلة: 11].
* وعن أنس ( قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي ( فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وإن يك الأخرى ترى ما أصنع. فقال (: «ويحك، أو هبلت، أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه لفي جنة الفردوس» [رواه البخاري].
* وفي الجنة مائة درجة، بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض، وفي كل درجة منها من النعيم ما هو أكثر وأعظم مما في التي دونها، وإن كانت مفتوحة بعضها على بعض بحيث يتزاور أهل الدرجات ويلتقي بعضهم ببعض كما هو الحال في الدنيا، يلتقي الفقير مع الغني، والغني مع من هو أغنى منه، والفقير مع من هو أفقر منه، ولكن لكل منهم حياته الخاصة في طبقته.
* قال (: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» [رواه البخاري].
* وقال (: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم» [متفق عليه].
* فالناس في الآخرة لا بأشكالهم وأجناسهم وأحسابهم وأموالهم ومناصبهم، إنما يتفاضلون بقدر إيمانهم وأعمالهم الصالحة.
* * *
أعلى أهل الجنة وأدناهم منزلة
* عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله ( قال: «سأل موسى ربه: ما أدني أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب. فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب.
قال: رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين،ـ ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر. قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: (فلا تعْلمُ نفْس ما أُخْفي لهُمْ منْ قُرة أعْيُنٍ جزاء بما كانُوا يعْملُون( [رواه مسلم]».
والفرودس أعلى درجات الجنة، وفيها من النعيم ما ليس في غيرها من درجات الجنة، وهي قمة النعيم مما لا يستطيع أن يتصوره بشر. وهي دار الأنبياء والمرسلين والشهداء والصديقين والصالحين.
* * *
المقدمة
* وأما أعلى درجة في الجنة فهي «الوسيلة» وهي درجة النبي (، وهي أقرب الدرجات إلى عرش الرحمن، يقول (: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة» [رواه مسلم].
* يقول ابن القيم رحمه الله: «ولما كان رسول الله ( أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية، وأعظمهم له محبة؛ كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله، وهي أعلى درجة في الجنة، وأمر النبي ( أمته أن يسألوها له؛ لينالوا بهذا الدعاء الزلفى من الله وزيادة الإيمان».
* فيا من تحب أن تكون قريبا من رسول الله ( الزم طريقه، وسر على نهجه، واتبع سنته، وبادر بإيمان يتبعه عمل، وبعمل يزينه صدق، وبحب يتبعه جميل اتباع؛ فبذاك تحظى بالقرب منه وبالشفاعة.
* * *
أبواب الجنة
* للجنة ثمانية أبواب يدخل منها المؤمنون، قال (: «في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون» [رواه البخاري]، وهي تفتح عندما يصل إليها المؤمنون، وتستقبلهم الملائكة محيية إياهم بسلامة الوصول، قال تعالى: (وسيق الذين اتقوْا ربهُمْ إلى الْجنة زُمرا حتى إذا جاءُوها وفُتحتْ أبْوابُها وقال لهُمْ خزنتُها سلام عليْكُمْ طبْتُمْ فادْخُلُوها خالدين( [الزمر: 73].
وأحد هذه الأبواب يسمى الريان، وهو خاص بالصائمين، وهناك باب للمكثرين من الصلاة، وباب للمتصدقين، وباب للمجاهدين، يقول رسول الله (: «من أنفق زوجين في سبيل الله من ماله دعي من أبواب الجنة، وللجنة ثمانية أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام» [متفق عليه].
* * *
سعة أبواب الجنة
* أما عن سعة أبواب الجنة فيقول النبي (: «والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر» وفي لفظ: «كما بين مكة وبصرى» [متفق عليه] وورد في بعض الأحاديث أن ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة.
وسعة الباب بحسب وسع الجنة، وكلمات علت الجنة اتسعت، فعاليها أوسع مما دونه.
وقد أخبرنا النبي ( عن المسافة بين كل باب وآخر فقال عندما سأله لقيط بن عامر ( عن الجنة: «وإن للجنة ثمانية أبواب، ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما».
ويقول ابن القيم عن أبوابها في نونيته:
أبوابها حق ثمانية أتت
في النص وهي لصاحب الإحسان
باب الجهاد وذاك أعلاها وبا
ب الصوم يدعى الباب بالريان
ولكل سعي صالح باب ور
ب السعي منه داخل بأمان
ولسوف يدعى المرء من أبوابها
جمعا إذا وافى حلى الإيمان
* * *
تربة الجنة وحصباؤها وبناؤها
* قال ( في حديث المعراج: « أدخلت الجنة فإذا فيها جنادل اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك» [متفق عليه]. وعن أبي سعيد ( أن ابن صائد سأل النبي ( عن تربة الجنة فقال: «هي در مكة – أي الدقيق الخالص البياض – بيضاء، مسك خالص»
[رواه مسلم].
* أما عن بنائها وحصبائها فقد سأل الصحابة رسول الله ( فقالوا: يا رسول الله، حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ فقال: «لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها – أي طينها – المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» [رواه أحمد وحسنه الألباني].
* أخي الحبيب: إن دارا هذا بناؤها وحصباؤها وتلك تربتها لجديرة أن يشمر لها المشمرون، ويتزود لها بخير الزاد الموحدون، ويسعى للفوز بها المخلصون.
* * *
أنهار الجنة
* قال تعالى: (مثلُ الْجنة التي وُعد الْمُتقُون فيها أنْهار منْ ماءٍ غيْر آسنٍ وأنْهار منْ لبنٍ لمْ يتغيرْ طعْمُهُ وأنْهار منْ خمْرٍ لذةٍ للشاربين وأنْهار منْ عسلٍ مُصفى ولهُمْ فيها منْ كُل الثمرات(.
* أخبر سبحانه أن أنهار الجنة ليست ماء فحسب، بل منها أنهار من ماء لم يتغير طعمه وريحه ولونه، بل هو أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها وألذها، ومنها أنهار من لبن لم يتغير طعمه بحموضة أو غيرها، ومنها أنهار من خمر لم تدنسها الأرجل، ولم تكدرها الأيدي، وليس فيها كراهة طعم ولا ريح، ولا غائلة سكر، بل يلتذ شاربها لذة عظيمة، لا كخمر الدنيا التي يكره مذاقها، وتنزف المال، وتصدع الرأس وتزيل العقل. ومنها أنهار من عسل قد صُفي عن القذى والوسخ. كل هذه الأنهار تجري من تحت القصور والغرف والبساتين (جناتٍ تجْري منْ تحْتها الْأنْهارُ(
[البقرة: 25].
* وقد حدثنا رسول الله ( عن أنهار الجنة، ففي إسرائه ( رأى أربعة أنهار، يخرج من أصلاها نهران ظاهران، ونهران باطنان. فقال: «يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ فقال: أما النهران الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات» [رواه مسلم].
* ومن أنهار الجنة نهر الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله (: (إنا أعْطيْناك الْكوْثر( [الكوثر: 1] تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج، وقد رآه الرسول وحدثنا عنه فقال: «بينما أنا أسير في الجنة إذ بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه مسك أذفر» [رواه البخاري].
* ومن أنهار الجنة أيضا نهر يسمى «بارق» على باب الجنة، يكون عنده الشهداء، يقول (: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا» [رواه أحمد وحسنه الألباني].
* وأنهار الجنة تتفجر من أعلاها، ثم تنحدر نازلة إلى أقصى درجاتها كما في قوله (: «الفردوس ربوة الجنة، وأعلاها وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة» [رواه الطبراني وصححه الألباني]. وما أحسن قول القائل:
أنهارها في غير أخدود جرت
سبحان ممسكها عن الفيضان
من تحتهم كما شاءوا مفـ
جرة وما للنهر من نقصان
عسل مصفى ثم ماء ثم خمر
ثم أنهار من الألبان
والله ما تلك المواد كهده
لكن هما في اللفظ مجتمعان
* * *
عيون الجنة
* في الجنة عيون كثيرة مختلفة الطعم والمشارب، قال تعالى: (إن الْمُتقين في ظلالٍ وعُيُونٍ(، وقال: (إن الْمُتقين في مقامٍ أمينٍ * في جناتٍ وعُيُونٍ(.
وفيها عينان يشرب المقربون ماءهما صرفا غير مخلوط، ويشرب منهما غيرهم الشراب مخلوطا بغيره وهما: عين الكافور، قال تعالى: (إن الْأبْرار يشْربُون منْ كأْسٍ كان مزاجُها كافُورا * عيْنا يشْربُ بها عبادُ الله يُفجرُونها تفْجيرا( [الإنسان: 5، 6]، وسميت كافورا لبياضها وشدة برودتها وطيب رائحتها.
والعين الأخرى: عين التسنيم، قال تعالى: (إن الْأبْرار لفي نعيمٍ * على الْأرائك ينْظُرُون * تعْرفُ في وُجُوههمْ نضْرة النعيم * يُسْقوْن منْ رحيقٍ مخْتُومٍ * ختامُهُ مسْك وفي ذلك فلْيتنافس الْمُتنافسُون * ومزاجُهُ منْ تسْنيمٍ * عيْنا يشْربُ بها الْمُقربُون( [المطففين: 22-28] وسميت تسنيما لأنها تنبع في مكان عالٍ فيصل ماؤها إلى كل مكان.
* وفي الجنة عين تسمى السلسبيل لسهولة إساغتها واللذة في شربها، قال تعالى: (ويُسْقوْن فيها كأْسا كان مزاجُها زنْجبيلا * عيْنا فيها تُسمى سلْسبيلا( [الإنسان: 17، 18].
* * *
غرف الجنة وقصورها وخيامها
* أعد الله لعباده السعداء في الجنة غرفا من فوقها غرف مبنية، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، محكمات مزخرفات، عاليات متألقات كأنها النجوم، بلغت حد الكمال في السعة والتمكين يقول سبحانه: (لكن الذين اتقوْا ربهُمْ لهُمْ غُرف منْ فوْقها غُرف مبْنية تجْري منْ تحْتها الْأنْهارُ( [الزمر: 20].
* وفي الجنة قصور كثيرة، ففي الصحيحين يقول (: «أدخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لشاب من قريش، فظننت أني أما هو، فقلت: ومن هو؟ قالوا: لعمر بن الخطاب» وفيهما أيضا: أن جبريل قال للنبي (: «هذه خديجة أقرئها السلام من ربها، وأمره أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب – أي اللؤلؤ المجوف – لا صخب فيه ولا نصب».
* وفي الجنة أيضا خيام، قال تعالى: (حُور مقْصُورات في الْخيام( [الرحمن: 72]. وقد وصف لنا الرسول ( إحدى هذه الخيام فقال: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلا، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا» [متفق عليه].
وقد وصف الله تعالى المساكن بأنها طيبة فقال جل شأنه: (ومساكن طيبة في جنات عدْنٍ( [التوبة: 72] وهذا الوصف له دلالة هامة، فلا يكفي أن تكون المساكن فاخرة البناء والأثاث ليكون العيش فيها طيبا، فكم من القصور في الدنيا لا يجد فيها أصحابها العيش الطيب؛ لأن نفوسهم غير مرتاحة وغير مطمئنة، ومن ثم فلا يطيب العيش فيها.
* * *
أثاث أهل الجنة
* وأما أثاث هذه المنازل وتلك المساكن فيشتمل على الأسرة المرتفعة المتقابلة المصفوفة بنظام ودقة حيث ينظر أهل الجنة في وجوه بعض، الموشاة والمحلاة بالذهب والفضة، قال تعالى: (على سُرُرٍ موْضُونةٍ * مُتكئين عليْها مُتقابلين( [الواقعة: 15، 16].
* وهناك الفرش Brushes العالية المبطنة بالإستبرق، المرفوع بعضها فوق بعض أو المرفوعة على الأسرة، قال تعالى: (مُتكئين على فُرُشٍ بطائنُها منْ إسْتبْرقٍ( [الرحمن: 54] وقال: (وفُرُشٍ مرْفُوعةٍ( [الواقعة: 34].
* وهناك أيضا النمارق المصفوفة على نحو يسرُ الخاطر، ويُبهج النفس، والزرابي المبثوثة على شكل منسق متكامل، قال تعالى: (فيها سُرُر مرْفُوعة * وأكْواب موْضُوعة * ونمارقُ مصْفُوفة * وزرابيُ مبْثُوثة( وقال: (مُتكئين على رفْرفٍ خُضْرٍ وعبْقريٍ حسانٍ(.
* وهناك الأرائك، وهي الأسرة عليها الكلل، أو الكراسي ذات الوسائد، قال تعالى: (مُتكئين فيها على الْأرائك لا يروْن فيها شمْسا ولا زمْهريرا( [الإنسان: 13].
* أخي الحبيب: تلك مساكن الجنة، قد طاب مرآها، وطاب منزلها ومقيلها، جمعت من آلات الراحة ما لا يتمنى فوقه المتمنون، مساكن حقيق بأن تسكن إليها النفوس، وتنزع إليها القلوب، وتشتاق إليها الأرواح، مساكن تجعل المرء يزدري معها كل نعيم، ويحتقر أمامها كل لذة.
فيا أيها الراكنون إلى الدنيا المطمئنون بها الراضون بمساكنها دون مساكن الجنة، هلا صحوتم من غفلتكم وعملتم بما يوصلكم إلى مساكن الجنة الطيبة؟
* * *
أشجار الجنة وثمارها
* أشجار الجنة كثيرة متنوعة مما نعرفه ومما لا نعرفه، ففيها العنب والنخل والرمان، قال تعالى: (إن للْمُتقين مفازا * حدائق وأعْنابا( [النبأ: 31، 32]. وقال: (فيهما فاكهة ونخْل ورُمان( [الرحمن: 68]، وفيها السدر والطلح وكلاهما منزوع الشوك معد للأكل بلا كد ولا مشقة، قال تعالى: (وأصْحابُ الْيمين ما أصْحابُ الْيمين * في سدْرٍ مخْضُودٍ * وطلْحٍ منْضُودٍ * وظلٍ ممْدُودٍ * وماءٍ مسْكُوبٍ * وفاكهةٍ كثيرةٍ(.
* وأشجار الجنة دائمة العطاء، ليست كأشجار الدنيا تعطي في وقت دون وقت، وفصل دون فصل، بل هي دائمة الإثمار والظلال، قال تعالى: (أُكُلُها دائم وظلُها( [الرعد: 35]، وقال: (وفاكهةٍ كثيرةٍ * لا مقْطُوعةٍ ولا ممْنُوعةٍ(.
* وهي ذات فروع وأغصان باسقة نامية، شديدة الخضرة، وسيقانها من ذهب، قال تعالى: (ذواتا أفْنانٍ(، وقال (: «ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب» [رواه الترمذي وصححه الألباني].
* أما ثمار تلك الأشجار فهي قريبة دانية مذللة، ينالها أهل الجنة بيسر وسهولة، لا تنقطع أبدا لا صيفا ولا شتاء، بل كلما قطعت عوض عنها مثلها في مكانها، يجنيها صاحبها قائما وقاعدا ومضطجعا، قال تعالى: (وجنى الْجنتيْن دانٍ(، وقال: (وذُللتْ قُطُوفُها تذْليلا( ويتخير منها ما يشتهي (إن الْمُتقين في ظلالٍ وعُيُونٍ * وفواكه مما يشْتهُون(.
* وقد حدثنا رسول الله ( عن بعض أشجار الجنة فقال: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام وما يقطعها» [متفق عليه]، وقال: «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، واقرءوا إن شئتم: (وظلٍ ممْدُودٍ(» [متفق عليه].
* ومن أشجار الجنة أيضا التي حدثنا عنها رسول الله ( شجرة «طوبى» وهي شجرة عظيمة كبيرة تصنع منها ثياب أهل الجنة، قال (: «طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» [رواه أحمد وحسنه الألباني].
ومنها شجرة ذكرها الله تعالى في كتابه، وأخبر أن الرسول ( رأى جبريل على صورته عندها، وهي عند جنة المأوى، وهذه الشجرة هي «سدرة المنتهى» قاتل تعالى: (ولقدْ رآهُ نزْلة أُخْرى * عنْد سدْرة الْمُنْتهى * عنْدها جنةُ الْمأْوى * إذْ يغْشى السدْرة ما يغْشى * ما زاغ الْبصرُ وما طغى(، وقد حدثنا رسول الله ( عن هذه الشجرة فقال: «ثم رُفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال – أي جبريل -: هذه سدرة المنتهى» [متفق عليه].
* * *
نعيم أهل الجنة باق دائم
* مهما طال نعيم الدنيا فهو زائل لا محالة، إما بالموت أو بغيره، ولهذا سماه الله متاعا؛ لأنه يتمتع به ثم يزول، أما نعيم الآخرة فهو أبدي خالد، لا يكتنف صاحبه سقم ولا ألم ولا ملل ولا نقصان. باق ليس له نفاد (ما عنْدكُمْ ينْفدُ وما عنْد الله باقٍ(، (إن هذا لرزْقُنا ما لهُ منْ نفادٍ(، (أُكُلُها دائم وظلُها(.
يقول (: «إذا أدخل أهل الجنة الجنة ينادي مناد: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا» [رواه مسلم].
فهم في حياة لا يعقبها موت، وصحة لا يعتريها سقم، وشباب لا يزول بهرم، ونعيم لا بؤس فيه.
هي جنة طابت وطاب نعيمها
فنعيمها باق وليس بفان
دار السلام وجنة المأوى
ومنزل عسكر الإيمان والقرآن
نعيم الجنة لا يوصف
* ونعيم الجنة يفوق الوصف، ويقصر دونه الخيال، ليس لنعيمها نظير فيما يعلمه أهل الدنيا، ومهما حاول الإنسان وصف نعيمها أو قرأ عنه، أو خطر بباله، فسيبقى نعيمها أعجب مما قرأ، وأطيب مما خطر على قلبه أو دار بخياله. وما حدثنا الله به عن نعيمها، وما أخبرنا به الرسول ليحير العقول ويذهلها، يقول الله تعالى على لسان رسوله (: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومصداق ذلك في كتاب الله: (فلا تعْلمُ نفْس ما أُخْفي لهُمْ منْ قُرة أعْيُنٍ جزاء بما كانُوا يعْملُون( [متفق عليه].
* وقد صور لنا الرسول ( قلة متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة فقال: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه – وأشار بالسبابة – في اليم، فلينظر بم ترجع». وقال: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها»، وقال: «ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب» [متفق عليه].
* * *
نعيم الآخرة كامل
* ونعيم الآخرة كامل لا يشوبه نقص، ولا يعكر صفوه كدر، خال من شوائب الدنيا وكدرها، فطعام الدنيا وشرابها يلزم منهما الغائط والبول والروائح الكريهة، وخمر الدنيا تفقد العقل وتصدع الرأس، ونساء الدنيا يحضن ويلدن، وقلوب أهل الدنيا مليئة بالحقد والغل، وأقوالهم خبيثة.
* أما الجنة فهي خالية من كل هذه الشوائب، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يبصقون ولا يتفلون، وقلوبهم صافية لا اختلاف بينهم ولا تباغض (ونزعْنا ما في صُدُورهمْ منْ غلٍ إخْوانا على سُرُرٍ مُتقابلين(، وأقوالهم طيبة، فلا تسمع في الجنة كلمة نابية تكدر الخاطر، وتعكر المزاج (لا لغْو فيها ولا تأْثيم(، ولا يطرق المسامع إلا الكلمات الطيبة السالمة من عيوب كلام أهل الدنيا (لا يسْمعُون فيها لغْوا ولا تأْثيما * إلا قيلا سلاما سلاما(.
* وخمر الجنة وصفها ربها بـ (بيْضاء لذةٍ للشاربين * لا فيها غوْل ولا هُمْ عنْها يُنْزفُون( وماؤها لا يأسن، ولبنها لا يتغير طعمه (أنْهار منْ ماءٍ غيْر آسنٍ وأنْهار منْ لبنٍ لمْ يتغيرْ طعْمُهُ(، ونساؤها مطهرات من الحيض والنفاس، (ولهُمْ فيها أزْواج مُطهرة(.
* وبالجملة فالجنة لا مثل لها، خالية من شوائب الدنيا ومنغصاتها، خالصة من الأذى، قد كمل نعيمها وحفظ من كل الأكدار.
* * *
طعام أهل الجنة وشرابهم
* طعام أهل الجنة وشرابهم في أعلى درجات اللذة والمتعة التي لا يستطيع البشر إدراكها، وكل ما في الجنة من المطاعم والمشارب مباح لهم، فلا شيء ممنوع، ولا شيء غير ما يشتهي السعداء الخالدون (وفيها ما تشْتهيه الْأنْفُسُ وتلذُ الْأعْيُنُ(، وقال: (ولهُمْ ما يدعُون * سلام قوْلا منْ ربٍ رحيمٍ(.
* وقد وصف الله سبحانه طعام أهل الجنة وشرابهم فقال: (إن الْمُتقين في ظلالٍ وعُيُونٍ * وفواكه مما يشْتهُون * كُلُوا واشْربُوا هنيئا بما كُنْتُمْ تعْملُون * إنا كذلك نجْزي الْمُحْسنين(، وقال: (إن الْأبْرار يشْربُون منْ كأْسٍ كان مزاجُها كافُورا * عيْنا يشْربُ بها عبادُ الله يُفجرُونها تفْجيرا(.
ثم إن طعامهم وشرابهم لا يصحبه ولا يعقبه مرض ولا نصب، فهم في مأمن من كل ذلك (يدْعُون فيها بكُل فاكهةٍ آمنين(، وقال: (يُطافُ عليْهمْ بكأْسٍ منْ معينٍ * بيْضاء لذةٍ للشاربين * لا فيها غوْل ولا هُمْ عنْها يُنْزفُون(، فخمر الجنة خالية من كل العيوب والآفات التي تتصف بها خمر الدنيا، فهي لا تذهب العقل، ولا تصدع الرأس، ولا توجع البطن، ولا يمل شاربها.
وأول طعام يتحف الله به أهل الجنة زيادة كبد الحوت، ففي صحيح البخاري أن عبد الله بن سلام سأل النبي ( أول قدومه المدينة: ما أول شيء يأكله أهل الجنة؟ فقال (: «زيادة كبد الحوت».
* وطعام أهل الجنة وشرابهم لا تنشأ عنه فضلات من بول وغائط وبزاق ومخاط كما هو الحال في الدنيا، وإنما تتحول هذه الفضلات إلى رشح كرشح المسك يفيض من أجسادهم، فتنبعث منه روائح طيبة، يقول (: «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوطون ولا يمتخطون. قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء كجشاء المسك» [رواه مسلم].
أرأيت – أخي الحبيب – طعاما أهنأ من هذا الطعام، أو شرابا ألذ من هذا الشراب؟ بل هل سمعت عن طعام هذا كنهه، أو شراب هذا وصفه؟!
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم
ولحوم طير ناعم وسمان
وفواكه شتى بحسب مناههم
يا شبعة كملت لذي الإيمان
لحم وخمر والنسا وفواكه
والطيب مع روح ومع ريحان
وشرابهم من سلسبيل مزجه
الكافور ذلك شراب ذي الإحسان
* * *
آنية طعام أهل الجنة وشرابهم
* وصف الله تعالى الآنية التي يأكل فيها أهل الجنة ويشربون فقال: (يُطافُ عليْهمْ بصحافٍ منْ ذهبٍ وأكْوابٍ(، وقال: (ويُطافُ عليْهمْ بآنيةٍ منْ فضةٍ وأكْوابٍ كانتْ قوارير * قوارير منْ فضةٍ قدرُوها تقْديرا(، وقال: (يطُوفُ عليْهمْ ولْدان مُخلدُون * بأكْوابٍ وأباريق وكأْسٍ منْ معينٍ(، فهناك الصحاف وهي القصاع، والأكواب وهي الآنية المستديرة التي لا عروة لها ولا أذن ولا خراطيم، والأباريق وهي ذوات الآذان والعرا والخراطيم، والكئوس وهي القداح التي فيها الشراب.
* وكل هذه الأواني من الذهب والفضة، وفي حديث أبي موسى ( أن رسول الله ( قال: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة... وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما» [متفق عليه].
* * *
لباس أهل الجنة وحليهم
* وأما لباس أهل الجنة فذو ألوان زاهية، وملامس ناعمة، لا يبلى من طول الزمن، ولا يتقذر من كثرة الاستعمال، فهو أبدا في جمال متجدد. ومنه الحرير، ومنه السندس، ومنه الديباج وغير ذلك، قال تعالى: (إن الْمُتقين في مقامٍ أمينٍ * في جناتٍ وعُيُونٍ * يلْبسُون منْ سُنْدُسٍ وإسْتبْرقٍ مُتقابلين( وقال: (وجزاهُمْ بما صبرُوا جنة وحريرا(.
* وثياب أهل الجنة من أرقى أنواع الثياب وأحسنها، وأغلاها قيمة، جمعت بين حسن المنظر ونعومة الملمس مما ليس له نظير في الدنيا، يقول البراء بن عازب (: أتي الرسول ( بثوب من حرير، فجعلوا يعجبون من حسنه ولينه، فقال رسول الله (: «لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذا» [رواه البخاري].
ومن ملابس أهل الجنة التيجان على رءوسهم، فعن المقدام بن معد يكرب أن رسول الله ( ذكر في الخصال التي يعطاها الشهيد: «ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها» [رواه الترمذي وصحح إسناده الألباني].
أما حُليهم التي يتزينون بها فمن أساور الذهب والفضة واللؤلؤ، قال تعالى: (وحُلُوا أساور منْ فضةٍ وسقاهُمْ ربُهُمْ شرابا طهُورا(.
وقد أخبرنا النبي ( أن لأهل الجنة أمشاطا من الذهب والفضة، وأنهم يتبخرون بعود الطيب مع أن روائح المسك تفوح من أبدانهم الزكية، فعن أبي هريرة أن رسول الله ( قال في صفة الذين يدخلون الجنة: «آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوة – أي عود الطيب – ورشحهم المسك» [رواه البخاري]. ولله در ابن القيم إذ يقول:
وهم الملوك على الأسرة فوق ها
تيك الرءوس مرصع التيجان
ولباسهم من سندس خضر ومن
إستبرق نوعان معروفان
* * *
نساء أهل الجنة
* من النعيم الذي أعده الله لعباده المؤمنين في الجنة ووعدهم به «الحور العين» اللاتي أنشأهن الله إنشاء، وطبعهن على أجمل صورة، طيبات الروائح، عطرات الأردان والخطرات، يستغرق حسنهن الباهر كل لب، ويسبي جمالهن كل عقل، ويستهوي كل قلب. فهن الحبيبات اللاتي لا يغرن، والأنيسات اللاتي لا يملن، والناعمات اللاتي لا يشوبهن كدر، والطاهرات اللاتي لا يمسهن الدرن، والخالدات اللاتي لا يبدن.
وإليك – أخي الحبيب – وصفهن كما جاء في كتاب ربنا وسنة نبينا (:
(1) جمالهن
* فقد جعلهن الله تعالى في قمة الجمال، فعيونهن أخاذات ساحرات لسعتها مع بياض في سواد تحار النفس في الاستمتاع بالنظر إليهن لشدة جمالها وكمالهن حتى سميت النساء هناك «بالحور العين»؛ لأن العين محل النظر والتأمل والتعبير الصامت عما في القلب من مودة ومحبة، يقول تعالى: (كذلك وزوجْناهُمْ بحُورٍ عينٍ(.
ووصف سبحانه أبدانهن وما فيها من جمال اللون ونعومة الملمس فقال: (كأمْثال اللُؤْلُؤ الْمكْنُون( وقال: (كأنهُن بيْض مكْنُون(، أي مصون محفوظ لم يغير صفاء لونه ضوء الشمس ولا عبث الأيدي.
* وأما رشاقة أبدانهن وتناسق أجزائهن فقد وصفهن الله بقوله: (كأنهُن الْياقُوتُ والْمرْجانُ( والياقوت والمرجان معروفان بجمال المنظر، ونعومة الملمس وشفافيته، وهما مما يرتاح إلى النظر إليهما لحسنهما.
* ووصفهن القرآن بأن لهن الأثداء والنهود المكعبة ذات الأحجام والأشكال الرائعة، ما يأخذ بأنظار أزواجهن إليهن، وبقلوب رجالهن نحوهن، وأنهن متقاربات في السن، فقال: (إن للْمُتقين مفازا * حدائق وأعْنابا * وكواعب أتْرابا(، والكواعب جمع كاعب وهو الثدي أو النهد الذي يزين صدر المرأة الشابة. والأتراب أي: المتقاربات في السن.
* ثم هن أبكار لم يسبق أن واقعهن قبل أزواجهن في الجنة إنس ولا جان، كما قال تعالى: (إنا أنْشأْناهُن إنْشاء * فجعلْناهُن أبْكارا * عُرُبا أتْرابا(، وقال: (لمْ يطْمثْهُن إنْس قبْلهُمْ ولا جان(.
* وقد حدثنا رسول الله ( عن رقة جمالهن وبهاء أبدانهن فقال: «لكل امرئ منهم – أي من أهل الجنة – زوجتان اثنتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن» [متفق عليه].
* وانظر – أخي الحبيب – إلى هذا الجمال الذي يحدث عنه الرسول ( هل تجد له نظيرا مما تعرف؟ يقول: «لو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا – أي المشرق والمغرب – ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» [متفق عليه].
(2) أخلاقهن
* من صفات الحور العين أنهن لطيفات المعشر، مؤنسات لأزواجهن، متحببات إلى أزواجهن، خيرات الأخلاق، حسان الوجوه، قصرن أبصارهن على أزواجهن فلم تطمح أنظارهن لغير أزواجهن كما قال تعالى: (فيهن قاصراتُ الطرْف(، وقال: (حُور مقْصُورات في الْخيام( أي قصرن أنفسهن على منازلهن لا يهمهن إلا زينتهن ولهوهن. قال تعالى: (فيهن خيْرات حسان(.
(3) غناؤهن
* ومن صفات الحور العين أيضا أنهن يغنين لأزواجهن بأحسن الكلمات وأعذب الأصوات ، يقول (: «إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط، إن مما يغنين:
نحن الخيرات الحسان
أزواج قوم كرام
ينظرن بقرة أعيان
وإن مما يغنين به:
نحن الخالدات فلا يمتنه
نحن الآمنات فلا يخفنه
نحن المقيمات فلا يظعنه
[رواه الطبراني وصححه الألباني].
(4) غيرتهن على أزواجهن في الدنيا
* من صفات الحور العين غير ما سبق أنهن يغرن على أزواجهن في الدنيا إذا آذته زوجته في الدنيا، يقول النبي (: «لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا» [رواه أحمد وصححه الألباني].
* * *
ابن القيم يصف حور الجنة
فاسمع صفات عرائس الجنات ثم
اختر لنفسك يا أخا العرفان
حور حسان قد كملن خلائقا
ومحاسنا من أجمل النسوان
حتى يحار الطرف في الحسن الذي
قد ألبست فالطرف كالحيران
كملت خلائقها وأكمل حسنها
كالبدر ليل الست بعد ثمان
والشمس تجري في محاسن وجهها
والليل تحت ذوائب الأغصان
حمر الخدود ثغورهن لآلئ
سود العيون فواتر الأجفان
والبدر يبدو حين يبسم ثغرها
فيضيء سقف القصر والجدران
* * *
خدم أهل الجنة
* من جملة ما أنعم الله به على أهل الجنة في الجنة أن جعل لهم ولدانا وغلمانا يخدمونهم، ويقومون على راحتهم. وهؤلاء الولدان في غاية الجمال والكمال كما قال الله تعالى: (يطُوفُ عليْهمْ ولْدان مُخلدُون( وقال: (ويطُوفُ عليْهمْ ولْدان مُخلدُون إذا رأيْتهُمْ حسبْتهُمْ لُؤْلُؤا منْثُورا(.
* يقول ابن كثير رحمه الله: «يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان أهل الجنة على حالة واحدة مخلدون عليها، لا يتغيرون عنها، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن... إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم؛ حسبتهم لؤلؤا منثورا، ولا يكونون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن».
أخي الحبيب: إذا كانت هذه صفات خدم الجنة، وتلك نعوتهم، فكيف يكون أهل الجنة أنفسهم؟!
* * *
سوق أهل الجنة
* لأهل الجنة سوق يجتمعون فيه، ويتبادلون فيها الحديث، ولكنها ليست كسوق الدنيا يسألون الله خيرها ويتعوذون به من شرها، بل هو سوق يتشوقون إليه لما فيه من الجمال والطيب، سوق يمطرون فيه مسكا، وتهب عليهم ريح عبقة، ويزدادون فيها حسنا وبهاء، يقول ( عن تلك السوق: «إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة، فيها كثبان المسك، فتهب ريح الشمال، فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا» [رواه مسلم].
* * *
أفصل ما في الجنة
* بجانب ما مضى من النعيم الحسي هناك نعيم آخر يفوق تلك اللذائذ الحسية، وهو رضوان الله تعالى على أهل الجنة وتكليمه لهم، واطلاع الله تعالى عليهم ورؤيتهم له سبحانه، وهذا والله هو النعيم الذي ليس بعده نعيم، والسعادة التي ليس بعدها سعادة، وكل ما في الجنة من النعيم لا يعد شيئا بجانب متعة النظر إلى وجه الله تعالى وسماع كلامه والشعور برضاه. وقد ذكر الله تعالى ما أعده للمؤمنين في الجنة من النعيم المقيم ثم ختمه بقوله: (ورضْوان من الله أكْبرُ( فعلم أن رضاه سبحانه عن عباده هو أكبر نعيم يلقونه في دار كرامته.
* وفي الحديث يقول (: «إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» [متفق عليه].
* ثم يمن الله تعالى على أهل الجنة بنعمة هي أكبر النعم، وأعظم المنن، وأجمل العطايا، فيمكنهم من رؤيته عز وجل، وهذه هي الغاية القصوى في نعيم الآخرة، والدرجة العليا من عطايا الله الفاخرة، يقول تعالى: (وُجُوه يوْمئذٍ ناضرة * إلى ربها ناظرة(.
* ويقول (: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبيض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة، وتُنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم – ثم تلا هذه الآية (للذين أحْسنُوا الْحُسْنى وزيادة(» [متفق عليه]. ولله در ابن القيم إذ يقول:
والله لولا رؤية الرحمن في الـ
جنات ما طابت لذي العرفان
أعلى النعيم نعيم رؤية وجهه
وخطابه في جنة الحيوان
وأشد شيء في العذاب حجابه
سبحانه عن ساكني النيران
* * *
صفة أهل الجنة
* يدخل أهل الجنة الجنة على أكمل صورة وأجملها، على صورة أبيهم آدم ( فلا أكمل ولا أتم من تلك الصورة التي خلقها الله بيده فأتمها وأحسن تصويرها، فهم ذوو أحجام كبيرة وأشكال جميلة، وألوان كريمة، وأعمار حليمة قد تجاوزت مرحلة الطيش والمراهقة، وسبقت سن الضعف والهرطقة، وذوو وجوه نيرة، وعيون كحيلة، وأبدان ناعمة، وجوههم كالقمر ليلة البدر وأصفى وأحسن، وأجسامهم كوجوههم يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها، وروائحهم أطيب من المسك والعنبر، أشرق على وجوههم السناء والضياء والبهاء، وشملهم الجمال، واستولى عليهم الكمال، يزدادون نضارة على تجدد الأوقات والأزمان، لا تفتر هممهم، ولا تكل ألسنتهم عن التقديس والتعظيم لله سبحانه، ولا يعتريهم القلق، ولا يصل إليهم الهم، ولا يمر عليهم الغم، ولا تضيق صدورهم، ولا تستوحش نفوسهم، ولا ترتاع قلوبهم، قد صفت لهم الدار، واطمأن بهم القرار، فطوبى لهم وحسن مآب.
* فعن حجم أجسامهم يقول (: «خلق الله عز وجل آدم على صورته، طوله ستون ذراعا... فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، وطوله ستون ذراعا، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن» [متفق عليه]. فكل من يدخل الجنة من بني آدم يكونون على هذه الصورة سواء كانوا في الدنيا طوالا أو قصارا، شيبا أو شبابا، رجالا أو نساء.
* وجمال أبدانهم عظيم بحيث إنهم يكونون جميعا جردا مردا أي لا شعر في وجوههم، وإنما وجوه بيضاء جميلة بهية، وصفها ربنا عز وجل فقال: (وُجُوه يوْمئذٍ ناعمة( وقال: (وُجُوه يوْمئذٍ مُسْفرة( وقال: (وُجُوه يوْمئذٍ ناضرة( ويقول (: «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا كأنهم مكحلون، أبناء ثلاث وثلاثين» [رواه أحمد وصححه الألباني].
* وأما أعمارهم فهي سن الثالثة والثلاثين – كما في الحديث السابق – وهي سن كمال الشباب، وثبات العقل، ونضج العاطفة. ثم إن هذا السن لا يزيد فيهم، فلا يصل بهم إلى مرحلة الشيخوخة والضعف؛ لأن مخلدون في الجنة لا يخرجون منها كما قال (: «لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» [رواه مسلم].
* وأهل الجنة لا ينامون؛ لقوله (: «النوم أخو الموت، ولا يموت أهل الجنة» [رواه البيهقي وصححه الألباني].
* وأهل الجنة وإن كانوا مشتركين في أصل الجمال وحسن الصورة إلا أن بعضهم أكثر جمالا ونورا من بعض، وذلك بحسب أعمالهم في الدنيا، وفي ذلك يقول (: «أول زمرة يدخلون الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل» [رواه مسلم].
* * *
أخلاق أهل الجنة
* أما أخلاق أهل الجنة وتصرفاتهم وسلوكهم وتعاملهم فيما بينهم فعلى أعلى درجات الكمال الخلقي والصفاء النفسي، حيث المودة والألفة والمحبة والصدق والوفاء، وحيث لا حقد ولا كراهية ولا غش ولا كذب ولا حسد، ولا غل، يقول تعالى واصفا أخلاقهم: (ونزعْنا ما في صُدُورهمْ منْ غلٍ إخْوانا على سُرُرٍ مُتقابلين(، ويقول: (لا يسْمعُون فيها لغْوا ولا كذابا(، ويقول: (لا يسْمعُون فيها لغْوا ولا تأْثيما * إلا قيلا سلاما سلاما(.
بل إن الله تعالى يلهمهم الكلام الطيب الحسن، يتبادلونه فيما بينهم زيادة في تكريمهم والإنعام عليهم كما قال تعالى: (وهُدُوا إلى الطيب من الْقوْل(.
* * *
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
* أخي الحبيب: لما كان هذا شأن الجنة ونعيمها حث ربنا عز وجل عباده على المسابقة إليها، والمسارعة إلى العمل من أجل الفوز بها، فقال سبحانه: (سابقُوا إلى مغْفرةٍ منْ ربكُمْ وجنةٍ عرْضُها كعرْض السماء والْأرْض أُعدتْ للذين آمنُوا(، وقال: (وسارعُوا إلى مغْفرةٍ منْ ربكُمْ وجنةٍ عرْضُها السمواتُ والْأرْضُ أُعدتْ للْمُتقين(.
وقال تعالى بعد أن ذكر ثواب الأبرار: (وفي ذلك فلْيتنافس الْمُتنافسُون(، وقال: (فاسْتبقُوا الْخيْرات(.
* يقول ابن رجب رحمه الله: لما سمع الصحابة ( قول الله عز وجل: (فاسْتبقُوا الْخيْرات( وقوله: (سابقُوا إلى مغْفرةٍ منْ ربكُمْ وجنةٍ عرْضُها كعرْض السماء والْأرْض( فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية، فكان تنافسهم في درجات الآخرة واستباقهم إليها، ثم جاء من بعدهم فعكس الأمر، فصار تنافسهم في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.
* قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة.
فاجتهد – أخي الحبيب – في نيل مطلوبك، وابذل وسعك في الوصول إلى رضا محبوبك، وكن مشتاقا إلى جنة معبودك.
* * *
طريق الجنة شاق
* الجنة درجة عالية، والصعود إلى العلياء يحتاج إلى جهد كبير، وطريق الجنة محفوف بالمكاره كما أن طريق النار محفوف بالشهوات، يقول (: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» [رواه مسلم].
وبرغم حفوف الجنة بالمكاره إلا أن المؤمن إذا علم ما فيها من النعم الدائمة واللذات الباقية، هانت عليه المكاره، وسهلت عليه الطاعات، وتيسر له اجتناب الشهوات والمحرمات، ولم يبع الجنة العالية الغالية بالدنيا الدنية الفانية، المنقطعة الشهوات، المنغصة اللذات، بل صبر في الأيام القليلة، والمدة القصيرة، ليفوز بالخلود الأبدي والنعيم السرمدي.
وطريق الجنة يحتاج إلى مجاهدة النفس ومجاهدة شياطين الإنس والجن، ولابد فيه من التضحيات المالية والبدنية للفوز بها (أمْ حسبْتُمْ أنْ تدْخُلُوا الْجنة ولما يعْلم اللهُ الذين جاهدُوا منْكُمْ ويعْلم الصابرين(.
* * *
طريق الجنة واحد
* ليس للجنة إلا طريق واحد، وهذا مما اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم، أما طرق الجحيم فأكثر من أن تحصى. يقول ابن مسعود (: «خط لنا رسول الله ( خطا ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: (وأن هذا صراطي مُسْتقيما فاتبعُوهُ ولا تتبعُوا السُبُل فتفرق بكُمْ عنْ سبيله( [رواه أحمد وابن ماجه وإسناده حسن].
* وطريق الجنة هو إجابة الداعي إليها ليس إلا، والداعي إليها هو محمد (، فعن جابر ( قال: «جاءت الملائكة إلى النبي ( فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا، فاضربوا له مثلا. فقالوا: مثله مثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أولوها له يفقهها. فقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. الدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمد فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس» [رواه البخاري].
* * *
أسباب دخول الجنة
* من الطبيعي أن يشتاق للجنة كل من سمع بها، وعلم ما أعد فيها، ولكن هل يكفي الشوق والتمني من غير تقديم أسباب الوصول إليها؟! إن من يمني نفسه بالوصول إلى الجنة ثم لا يسلك أسباب دخولها والفوز بها؛ لهو شخص غرته الأماني الكاذبة، وخدعته الدنيا الفانية، وسوف تظهر خسارته يوم القيامة، يوم يكشف له الغطاء، ويتبين سفهه يوم يحشر المتقون إلى الرحمن وفدا، ويساق المجرمون إلى جهنم وردا، وسيرى أنه باع ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، في أبد لا يزول ولا ينفد، بعيش هو كأضغاث أحلام، مشوب بالنغص، ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلا أبكى كثيرا، وإن سر يوما أحزن شهورا، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف مسراته.
* أما الموفق فهو الذي علم ما خلق له، وما أريد بإيجاده، ورأى علم الجنة قد رفع؛ فشمر إليه، وصراطها المستقيم قد وضح؛ فاستقام عليه، علم أسباب دخولها فأتى بها، وأسباب خسارتها فانتهى عنها.
فتعال أخي الحبيب نتذاكر جملة من أسباب دخول الجنة بإيجاز، وهي أسباب دل عليها القرآن الكريم والسنة النبوية.
1- الإيمان والعمل الصالح؛ لقوله تعالى: (والذين آمنُوا وعملُوا الصالحات أُولئك أصْحابُ الْجنة هُمْ فيها خالدُون(.
2- طاعة الله ورسوله (؛ لقوله تعالى: (ومنْ يُطع الله ورسُولهُ يُدْخلْهُ جناتٍ تجْري منْ تحْتها الْأنْهارُ ومنْ يتول يُعذبْهُ عذابا أليما( وقال (: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» [رواه البخاري].
3- طلب العلم ابتغاء وجه الله تعالى؛ لقوله (: «ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به به طريقا إلى الجنة...» [رواه مسلم].
4- الاستقامة على دين الله تعالى؛ لقوله تعالى: (إن الذين قالُوا ربُنا اللهُ ثُم اسْتقامُوا فلا خوْف عليْهمْ ولا هُمْ يحْزنُون * أُولئك أصْحابُ الْجنة خالدين فيها جزاء بما كانُوا يعْملُون(.
5- بناء المساجد أو المشاركة في بنائها؛ لقوله و: «من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة» [متفق عليه].
6- كثرة التردد على المسجد لأداء الصلوات؛ لقوله (: «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح» [متفق عليه].
7- الحج المبرور؛ لقوله (: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلى الجنة» [متفق عليه].
8- الجهاد في سبيل الله تعالى؛ لقوله تعالى: (إن الله اشْترى من الْمُؤْمنين أنْفُسهُمْ وأمْوالهُمْ بأن لهُمُ الْجنة يُقاتلُون في سبيل الله فيقْتُلُون ويُقْتلُون وعْدا عليْه حقا في التوْراة والْإنْجيل والْقُرْآن...(.
9- الصدق في الحديث والوفاء بالوعد وأداء الأمانات وحفظ الفرج وغض البصر وكف اليد؛ لقوله (: «اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: أصدقوا إذا